عن الجسد والحيز الذي يشغله: مقابلة مع إلهام الدوسري
إلهام الدوسري نحاتة، وفنانة مفاهيمية (بحثية)، وكاتبة من الرياض. وُلدت ونشأت إلهام في الولايات المتحدة وانتقلت للرياض بعد المرحلة الابتدائية. أكملت إقامة فنية في ماس ألس إيقولس لمدة شهر في منطقة توريّس دي فوا، برشلونة، كتالونيا في أسبانيا في فبراير ٢٠٢٠. تخصصت وعملت في المحاسبة، ومنها تنوعت مجالاتها المهنية عبر السنوات؛ فعملت في الترجمة وتصميم الرسومات والكتابة الإبداعية وإدارة العلامة التجارية في مجال التسويق وغيرها.
حدثتنا في هذه المقابلة عن التاريخ الجماعي للنساء السعوديات في الرياض، واهتمامها بدراسة ووصف تأثير الحيز على الجسد الذي يشغله. كما حدثتنا عن استخدامها للذاكرة والخيال في ملء فجوات الأرشيف.
من أوائل الرسومات الرقمية لإلهام
أعمالك تتمحور حول التاريخ الشخصي والجماعي للفرد. كيف أثر تاريخك الشخصي على اهتماماتك الفنية والمواضيع التي تتطرقين إليها في أعمالك؟
التاريخ الشخصي والجماعي مهمان للغاية لأنني كبقية السعودين من جيلي والجيل الذي يسبقني كنت أسمع من أبي وجدتي - رحمها الله - وعماتي توصيات تخص أهمية التسجيل والتوثيق لأننا نفتقد هذه الأشياء في تاريخنا. كانوا حريصين على التسجيل دون أن يكون للتوثيق غاية كالأبحاث أو التقارير، وأخبروني مرارًا بأن توثيقي للأشياء سوف يكتسب أهميته مع الوقت. لذلك لطالما كان التوثيق شيئًا يخطر على بالي كطفلة رغم أنني لم أمارسه أو أسعى له.
أغلب أعمالي الحالية تعتبر انعكاسًا لطفولتي وذكرياتي. القصص الشخصية التي أركز عليها هي من طفولتي في أغلب الأحيان لأنها شكلت نقطة انتقال مهمة في بيئتي حيث انتقلت عائلتي من الولايات المتحدة عندما كنت في الحادية عشر من عمري إلى الرياض. كنت متحمسة جدًا حينها لعودتي لأرض الوطن الذي كنت أسمع عنه. كانت البيئة مختلفة من أكثر من ناحية، كحياة الشارع والحي، خصوصًا عندما تشكِّل تجارب النساء السعوديات. لذلك كانت فكرة ارتباط الأجساد بالمساحة والحيز الذي تشغله، وكيفية تشكيلها لسلوكياتنا كان شيئًا يشغل بالي في السعودية، خصوصًا بتجارب النساء.
تاريخيًا على سبيل المثال كانت النساء مرتبطات بالأرض بينما الرجال ينتقلون للسفر وكسب العيش وغيرها. تكونت من هذه الفكرة ثبات النساء وارتبطاهن الوثيق بالمساحة التي يشغلنها، سواءً كانت بالرضا أو الغصب. من ناحية شخصية، كنت نشيطة وكثيرة الحركة كطفلة. كنت أهوى كرة القدم والركض وأمارسها عندما كانت عائلتي تسكن الولايات المتحدة، لكن أصبحت هذه الاهتمامات محدودة بعد انتقالنا إلى السعودية لأنني أنثى. سلطت الضوء على الذكريات التي تخص هذه التجربة في أعمالي، حيث رسمت نفسي عندما كنت طفلة في أوائل رسوماتي الرقمية وأنا جالسة على عتبة بيتنا وأشاهد الأولاد وهم يلعبون كرة القدم وهم حفاة. كنا في تلك اللحظة نشغل نفس الحيز، لكن تلك المساحة حينها فرضت قيودًا معينةً على حركتي لم تفرضها عليهم.
البنت والمهرج والكرسي الافتراضي
تركزين في أعمالك على عوامل تشكل التجربة الإنسانية، كالمساحة وغيرها. ما هي تلك العوامل بالنسبة لك شخصيًا، ولما تلك العوامل بالذات؟
المساحة والحيز مهمان لأننا كأشخاص نساهم بتشكيلها، وهي تساهم بتشكيلنا أيضًا في نفس الوقت. لا وجود لنا - باختصار - دون تلك المساحات. الأمر أكثر أهمية هو دراسة تلك الأجزاء من الحيز الذي نشغله ولا نستطيع استغلاله أو أن نظهر أجزاء معينة من هوياتنا داخلها بناءً على عوامل مختلفة كالجندر وغيرها. شعرت بأنني مقيدة في أغلب الأحيان، وأن اهتماماتي وهواياتي محددة بناءً على الحيز الذي أشغله.
أركز أيضًا في أعمالي على عوامل أخرى كالهوية. كنت أبحث في بداية عشرينياتي عن هويتنا كسعوديين وأناقش وأطرح العديد من الأسئلة عنها. هل نحن القهوة والهيل والبادية والإبل؟ ما الذي يفرقنا عن بقية الخليج، وما الذي يجمعنا؟ وأيضًا أفكر بهوية النساء السعوديات بشكل خاص. كما أركز على العمران وارتباطه بالموقع الجغرافي، خصوصًا في الرياض. فمثلًا، عندما تمشي في الرياض، تلاحظ أن العمران، سواء طول الجدران أو أشكالها، يختلف بناء على الحي.
مؤخرًا وصلت إلى مرحلة تفاهم لهويتي كامرأة سعودية في الرياض، وتطرأ على بالي فكرة بشكل مستمر تخص الرياض والعمران والنساء السعوديات بدأت بعدما قدت السيارة لأول مرة. لاحظت أن وجهة نظري عندما انتقلت من مؤخرة السيارة إلى مقعد القائد تغيرت بشكل جذري. أصبحت أرى وأستمتع بشوارع الرياض بشكل مختلف تمامًا، ولم أدرك أن تغييرًا بسيطًا كهذا له تأثير على فهمي لروح المدينة وارتباطي بها.
نفاه
تعتبر المرأة السعودية مركز اهتمامك سواءً بأبحاثك أو منحوتاتك. كيف تتمكنين من حكاية قصتها من تجربتك الخاصة لجماهير متنوعة باعتقاداتها عن تجارب النساء السعوديات؟
هناك لحظات كثيرة شعرت بها بالضغط من هذه الناحية. لم أرد أن أقول "أنا الفنانة الوحيدة، والقصة التي أحكيها هي قصة كل امرأة سعودية". شعرت بهذا الأمر خصوصًا عندما بدأت العمل على مشروع نفاه. وصفت هذا المشروع بأنه تصوير لحياة النساء في الرياض في فترتي الثمانينات والتسعينات، ولكني أيضًا حرصت أن أذكر أنه مستوحى بشكل تام من ذكرياتي وتجربتي الخاصة.
اتفق الكثيرون مع تصويري للنساء في هذا المشروع عندما رأوا العمل لأول مرة وأخبروني بأنهم يشاركوني تلك الذكريات. لكني لاحظت أن النساء اللواتي اتفقن مع وجهة نظر العمل كن من نفس خلفيتي. بعدما عرض المشروع لأول مرة في جدة، لاحظت أن ردة فعل النساء سواءً كن من جدة أو مناطق مختلفة اختلفت. حتى نساء الرياض اختلفت تجاربهن مع ما صوره مشروعي باختلاف الحي والمنطقة السكنية، حيث أخبرتني إحداهن بأنني أعمم في هذا المشروع، وأخرى أخبرتني بأنها لم تواجه نفس القيود التي يدعيها مشروعي.
دفعتني الآراء المختلفة أن أحرص على تحديد ماهية ما أحاول تصويره في مشاريع؛ ففي مشروع الصبَّابات ذكرت بشكل واضح أنني ببساطة أنقل وأوثق تجارب شخصية لبعض الصبابات، وليس كلهن، من وجهة نظر عامة وليست شخصية.
الصبَّابات: كرم الضيافة وتعاضد النساء
تتعاملين في أعمالك وكتابتك مع هويات مهمشة اجتماعيًا، سواءً لأسباب اقتصادية أو عرقية. كيف تحرصين على توثيق قصصهم دون أن تقعي في فخ اختلاف امتيازاتك الاجتماعية عنهم/ن؟
ما زال المشهد الفني ناشئًا في السعودية، ولذلك ينقصنا كفنانين الكثير مما نحتاج أن نتعلمه، خصوصًا بما يتعلق بهذا الموضوع. فمثلًا تجد أغلفة بعض مجلات الأزياء والموضة مستخدمة البلد في جدة بكل بجاحة كخلفية لها. سعيدة بالاهتمام والانتقاد الذي يعبره الكثير على وسائل التواصل الاجتماعي حول هذا الموضوع.
شخصيًا عندما بدأت مشروع الصبَّابات أخذت بعين الاعتبار بأن النساء عامة لا يسلط الضوء على أصواتهن، وأنهن كصبابات مهمشات لظروفهن الاقتصادية إلى جانب ظروفهن الاجتماعية. فذكرت لهن في البداية جميع التفاصيل - بصغيرها وكبيرها - التي تخص المشروع، خصوصًا بأنني أردت تصويرهن. كما وضحت لهن حقوقهن أثناء كتابة وتصوير المشروع، وبعد نشره من الناحية المادية وغيرها؛ فمثلًا عندما تطلب إحدى المجلات مقابلتي بخصوص المشروع أطلب أن تحضر معي بعض الصبابات وأن يتم تسليط الضوء على قصصهن في تلك المقابلات بدلًا مني شخصيًا لأنني لست إلا ناقلة لتجاربهن.
تصميم البوستر الإعلاني للفيلم السعودي القصير هلا
أعمالك أيضًا تشمل سد فجوات الأرشيف بأنواعه. ما نوع الأرشيفات التي تثير فضولك، وكيف تتعاملين معها؟
لم أفكر بالأرشيف عندما بدأت مسيرتي كفنانة. كان عملي بالبداية بمثابة تحقيق عن الماضي. كيف أصل إلى معلومات معينة؟ لم توجد صعوبة عند البحث عن معلومات معينة، ولم هناك معلومات مخبأة عننا؟ قادتني تلك الأسئلة إلى الأرشيف، بجانب الكاميرات والصور التي كان أبي يلتقطها والتي ملأت طفولتي. اهتميت بالأرشيفات البصرية لهذا السبب، ولأنني أيضًا كنت محظوظة لأنني نشأت في السعودية محاطة بهذا النوع من التوثيق بالرغم من تجنبه أو عدم وجوده بالسعودية بشكل عام.
وجدت أن قصص النساء منسية ومهملة بالأرشيف، خصوصًا البصري. لذلك أردت أن أكمل تحقيقي خلال أعمالي في هذا المجال. كنت محظوظة لأنني وجدت نفسي محاطة بباحثين وفنانين قادوني وشكلوا أسئلتي عن الأرشيف. عندما بدأت مشروع الصبابات، لم أنوي أن يشمل المشروع صورًا لهن لأنني كنت خائفة من استغلالي لصورهن أو من عدم قبولهن لفكرة التصوير. لكن اقترحت علي صديقتي المقربة وشريكتي في عدد من المشاريع الفنية والمهنية الكاتبة والمخرجة بيان الدويهيس أن أقوم بتصويرهن. بالرغم من ترددي، أدركت مسؤوليتي وقدرتي على سد الفجوات التي تعم الأرشيف، كقصص الصبابات. وبالفعل، زاد تأكدي من تصويرهن بعد استشارة تارا الدغيثر (باحثة وقيمة فنية) باستخدام التصوير كوسيط بصري للبحث. لذلك عزمت على التصوير ليحث الناس على التساؤل عن سبب فقدان تاريخنا لهذه القصص بأنواعها.
وما أهمية دور الخيال والذاكرة سد فجوات الأرشيف العمل؟
كان للخيال والذاكرة دور رئيسي في مشروع نفاه. اعتمد المشروع على ذاكرتي وذاكرة أهلي وألبومات صور ونقاشات ومقابلات. لم توجد وثيقة مادية تخص تلك الحقبة غير الصور الموجودة في الألبوم لأستخدمها في تشكيل المنحوتات أو المشاهد في المشروع، لذلك لعب الخيال دورًا في مساعدتي في تصوير بعض تلك المشاهد - كأجساد النساء، وملابسهن، وجدران بيوتهن - لوجود فجوة في الأرشيف لا تمكني من رؤية وملاحظة حياتهن أثناء تلك الحقبة بشكل تام.
لكن كان يصعب استخدام الخيال في أعمال أخرى كمشروع الصبابات. كان علي أن أعزل نفسي وتجاربي وخيالي من ملامسة ما أوثقه من مقابلات وتجارب تخص الصبابات، واستخدام صوتهن وصورهن وقصصهن لوحدها لملء الفجوة.
جزء من فيديو موشن جرافيك للهيئة السعودية للسياحة والآثار