حقول عباد الشمس السوداء
جميع الصور المصاحبة لهذه المقالة من تصوير محمد الفرج *
إنه النسيان المؤقت، الانعتاق من قبضة العالم، الفضاء الرحب الذي يبتلع كل الأصوات. عندما يصطف "اللطامة" في خطوط تراتبية، يبدون كموجٍ أسودٍ، سربٍ مطعونٍ في وجهه، كمن يحاولون إيقاظ شيء ما. يشرعون برفع أيديهم ملوحين لأحزانهم، لتهبط على صدورهم وتضرب دق باب القلب. تنفلت نغمة موحدة تحتشد فيها كل أوقات الغروب لأرواح مسحورة بقوة العاطفة. تمتد أصواتهم من غور الرثاء مرددين:"حيدر! حيدر!" أليس هذا إيقاع آخر للحزن؟ و بالحزن ترق القلوب و يعرف الرب؟! ونحنوا على الأرض وكائناتها. قال تعالى:{ويل للقاسية قلوبهم} — القلوب التي لا ترف ولا تتفاءل برب الكون والإنسانية تعطب وتتوحش.
لا يمكن الفكاك من السحر الخلاب للتشابه الدقيق في الأداء. كأنك تقف على حقول عباد الشمس وهي تتبع صباحها. يفتتح الصوت الشجي مهرجان الدوران حول النقطة ذاتها مجاراة لأفلاك الطيور. التجلي بالألم. الغناء بالبكاء. السير وقوفًا. الانفصال بالاتصال. تطهير الجرح بالدمع، هذا ما يفسر قول الجدة: ألطم لأغسل قلبي.
مواسم اللطم جزء من الثقافة الشيعية، وطقس روحاني يشبه تلك الأداءات التي يقوم بها المريدون في الصوفية. أنا سليلة هذه الثقافة، وأعرف ماذا يعني أن تشارك في أداء موحد صادح! شيء يشبه الخدر الجمعي يصيب الكل. إنه رقص خاص حول التاريخ؛ فاللطم بالأساس فعل أنثوي عرفته العرب وشعوب أخرى. وعلى لسان امرأة (١) ترقص بحرارة في مولد بالقاهرة: احنا بنعرف ربنا بالرقص.
في سرب السواد هذا، أنت لا تسأل ولا تجيب. أنت تتماهى، تُذرى، تتبخر، تصعد. يجرفك صوت غزير لإحياء عرس الحزن. الجموع تتحول لكتلة. منذ البداية وحتى النهاية، كشوط حول الكعبة، يحاول اللطامة الحفاظ على تركيزهم، لاستبطان الذات الملتاعة، و التأمل في الجرح الأكبر لفقيدهم الحسين.
قد يصاحب اللطم أحيانًا بعض الآلات الموسيقية مثل الطبول، والصنجات لتكتمل الملحمة الموسيقية، التي تبدأ بالآه، وتمتد بالمراثي العالية. كل إيقاع هو ضربة دقة قلب، كل حماس هو انفلات من الواقع المادي، كل قصيدة هي دعاء كروان حزين يريد خلاصه.
"من يدرك الحزن أكثر من قلوب النساء؟"
.في حلقات اللطم النسائية أتذكر أشكالهن بعضهن جيدًا، كانت إحداهن تدور حول لهب الروح مغمضة العينين، تغني في ملكوتها بسم الرب. تتمتم بكلمات لا أسمعها، لكنني أستطيع أن أشتم فيها الرجاء المتعب، تحلق كأنها تصطاد السماء و توزعها فيستشفي يغدو الجميع في علو.
(١) من مقالة بعنوان الموت للأديب أحمد الحقيل