ولد محمد الفرج في الأحساء، وهي مدينة نائية في المملكة العربية السعودية غذت اهتمامه بالطبيعة والبيئة. قادته إلى ممارسات فنية وثقافيةمتعددة، من صناعة الأفلام والفيديو والتصوير الفوتوغرافي والتركيبات والكتابة، والتي من خلالها يقدم عالمًا على وشك الانهيار. محمد فنانبيئي واجتماعي في الصميم. فيلمه الوثائقي القصير ضائعون حصل على المركز الأول في فئة الطلاب في مهرجان أفلام السعودية في ٢٠١٥.
جوهر ممارسته هو استكشافه للعلاقة بين الأشكال والمفاهيم، والذي يمكن رؤيته من خلال القصص المتراكبة في صوره الفوتوغرافية المحررة وأفلامه القصيرة المشبعة بالصوت والصورة التي تجمع ما بين الموضوعات الخيالية وغير الخيالية. غالبًا ما يستخدم ويعيد استخدام المواد الطبيعية وغيرها الموجودة في الأحساء ويجمعها مع ألعاب الأطفال والقصص من الأشخاص العاملين في الأرض كمحاولة لخلق أعمال مشحونة بالخيال وحالات من التعايش بين الإنسان والطبيعة والتحلل الذي يصيب العلاقة بينهما مع مسحة من الأمل.
مشهد من الوثائقي القصيرشبح الفلاح
حدثنا عن نشأتك، والأحساء، وكل ما ساهم بتشكيل ما أنت عليه كشخص وفنان الآن. أشعر بالخجل حين يُطلب مني الحديث عن نفسي بشكل مباشر، وهذا ليس نابعًا من تواضع مصطنع، وإنما من إيمان حقيقي بأني مجموعة من القطع المركبة التي أدين لها بحياتي: ما كانت وما هي الآن وما ستؤول إليه. لذا فأنا مدين لقرية القرين في الأحساء التي فيها نشأت وتعلمت، وللأرض والنخيل، ولحارسها السومري جدي عبدالله - رحمه الله - الذي علمني أن اليد كائن حي قائم بذاته. أنا مدين للجدات والعمات والخالات: أشجار الحكايات. أنا مدين للنسوة فيها، والأمهات العاملات اللاتي ينسجن الأمل من سعف النخيل. أنا مدين للطقوس الدينية التي من خلال توثيقها وقعت في حب الكاميرا. ومدين أيضًا لفريق الطليعة لكرة القدم الذي منه عرفت أن الركض هو ركوب للريح، رياح الحياة التي أوصلتني لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران، والتي خلال دراستي فيها للهندسة الميكانيكية تعلمت كلمات الحركة والنار والماء والهواء، والأرقام والأشكال. وجعلتني أدفن رأسي في الكتب وألتهم الأفلام. وما زلت جائعًا. كل ذلك وأكثر بكثير هو ما أدين له محاولاتي في الفن والكتابة والسينما. وهدفي من خلالها أن أصور كأعمى يرى لأول مرة، وأن أحاول زرع الأغنيات في صدور الآخرين.
كولاج بلا عنوان
متى لاحظت اهتمامك بالفن، وما الخامات التي تعاملت معها بالبداية؟
وقعت في حب الكاميرا مبكرًا، إلا أن ذلك كان مقتصرًا على توثيق العائلة، والمناسبات الدينية في القرية. لكني أتذكر جيدًا المرة الأولى التي قمت فيها بتجميع أغصان وأوراق وأحجار لبناء شكل معين والتقاط صورة له في محاولة لتقليد جدي الذي كان يفعل ذلك لسد وتغيير مجرى المياه في المزرعة من خلال جمع نفس تلك العناصر ولفها في قماش قديم. هذه الخامات الطبيعية وغيرها هي ما تثير اهتمامي حتى الآن والتي استخدمها/أعيد استخدامها في صناعة الأعمال والمجسمات. بالطبع إضافة إلى فعل التصوير، ثابتا أم متحركًا.
كذلك كنت مهتمًا وقتها بقراءة مجلتين كنت أبتاعهما كل أسبوع من مركز صاهود في الراشدية، وهما مجلتي العربي وماجد اللتان عرفاني على كثير من المنتجات الأدبية والثقافية، والتي بدورها حببتني في اللغة والكتابة وسرد القصة، وكما علمتني أهم شيء بالنسبة لي: الأشكال الجادة والطفولية اللعوبة.
صور من معرض حياة جامدة وأحلام بلاستيكية
الطابع الذي يغلب على أعمالك هو التوثيق: توثيق تفاصيل الحياة اليومية، والطبيعة، والتاريخ. ما سبب هذا الاهتمام؟ وما أهمية استخدام الفن كوسيلة أرشفة بنظرك؟
مهما تحدثنا عن دور الفن وأهميته، سواء في كونه مدعاة للدهشة، أو مرآة للمجتمع والحياة، أو تعبيرًا حرًا للكون الداخلي فينا والخارجي من حولنا؛ فإنه في نهاية المطاف - وكما نرى الآن - هو أثر للإنسانية. إن الشعر والسينما والموسيقا والفنون المعاصرة ما هي إلا كأثر كفوف الأشخاص المطبوعة داخل الكهف لتقول: كنا هنا.
كيف أثرت دراستك للهندسة الميكانيكية على توجهك الفني؟
لم تأثر دراسة الهندسة بشكل واضح في ممارستي الفنية حتى الآن، إلا أنها أعطتني المعرفة العلمية، والتي بطريقة ما تفيدني في عملي وحياتي الشخصية، واللذان يتداخلان كثيرًا. أعتقد بأني كطريقة للتأقلم وقت الدراسة وجدت رابطًا بينها وبين الحياة من منظوري الخاص. مثلًا، مفهوم انتقال الحرارة والطاقة وكونها مجازًا للمشاعر وتغيرها وتأثيرها.
إلا أنني بدأت مؤخرًا بمراجعة كتب الجامعة بغية الاستزادة والتذكر للإستفادة منها في بعض المشاريع القادمة المرتبطة بالبناء و بالأعمال التركيبية من أجزاء النخلة و المستلهمة من الأرض والسقاية والماء والنار.
سلسلة بعنوان حرارة
يتحاشى العديد من الفنانين التطرق بشكل واضح إلى مواضيع سياسية تمسهم وتمس مجتمعاتهم، ولكنك تتطرق إلى هذه المواضيع وتحكي قصصًا عنها سواءً بالأفلام أو الأعمال الأخرى. كيف يساعد الفنان بنشر الوعي عن هذه القضايا برأيك، وما الدور الذي يؤديه؟ البحث عن الحقيقة هو شيء يقع في صميم الممارسات الفنية والثقافية، مما يجعل من ذلك فعلًا تعبيريًا وسياسياً بالضرورة، سواء وعى الفنان ذلك أو لا. أعتقد أنه علي كفنان، مهما كان توجهي الفني، جمالياً أو مفاهيمياً أو تعبيرياً، أن أكون قريباً من نفسي والناس، والهموم التي تؤرقنا، والمشاكل التي نريد إصلاحها. العمل الذي تقوم به المؤسسات الفنية والثقافية، الخاصة منها والحكومية، كوزارة الثقافة، تشير إلى أن الفن والثقافة من ضروريات الحياة، وهذا أمر يبعث على التفاؤل. أعيش وأعمل في محترف صغير في الأحساء، إلا أنني أفضل أن أعتبر المدينة والحياة كلها بكل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية محترف للاشتغال.
الروحانية تأخذ أشكالًا عدة، ونجدها في أعمالك، سواءً كانت صور لمصلين في الحرم أو أفلامًا عن ارتباط الناس بالطبيعة من حولهم. ما أهمية الجانب الروحاني في أعمالك، ولماذا تشمله؟
أحاول ألا أحلل ذلك كثيرًا لأنني أحب أن أعتقد أنه شيء تلقائي يظهر هكذا بلا تفسير، مثل الشِّعر على جوانب الطريق في رحلة البحث عن المعنى التي لا تنتهي.
سلسلة خارج المربع/داخل الدائرة
ما الخامات التي تجد أنها تناسب المواضيع التي تتطرق إليها، وما هي بالتحديد؟ أجد متعة وتحديًا ذهنيًا في محاولة المقاربة ما بين الشكل والمضمون، خصوصًا عندما يؤثر كل منهما على الآخر في عمل ما. كأن - وببساطة - أن أقوم بتصوير العمال في المدينة صيفًا وتحت الشمس بكاميرا حرارية تقوم بتصوير الأشكال ودرجات حرارتها. هنا مثال واضح وسهل، إلا أنني أطمح لاشتغالات أكثر عمقًا. أعتقد بأنني مهووس بالصورة والفيديو والفيلم، وبالمجسمات الهجينة من المواد الطبيعية والغير طبيعية، وبالصوت والضوء، وبالكلمة المكتوبة والمسموعة. أستخدم هذه الخامات في أعمال بسيطة كل على حدى أو مركبة من عدة أنواع، كالكولاج والفسيفساء.
أين ترى مستقبل الفن والسينما في السعودية خارج الإطار والتوقعات الغربية؟ الأمر الوحيد الذي يمكنني أن أتحدث عنه بثقة هنا هو بأنه على الجادين في العمل في الفن والسينما في بلادنا - والذين أحاول أن أكون منهم - أن نجد صوتنا الخاص و لغتنا الخاصة. علينا أيضًا أن نثق في الموروث، وألا نخاف من تفكيكه وإعادة تقديمه بصورة جديدة. كما يجدر بنا ألا نكون مرتاحين في اللعب على وتر النوستالجيا والسياسة وننجرف وراء إبهار المؤسسات الغربية فقط - والتي هي أدوات قوية - بل واستخدامها في التعبير عن اللحظة الراهنة وعن مجتمعنا اليوم. هذا ما يجب علينا فعله إذا ما أردنا أن نصنع فنًا وثقافة خاصة بنا تدهش العالم.
صورة من مشروع في حضرة اللعب
ما الدور الذي يلعبه الدين بشكل عام وبتشكيله للهوية في الأحساء والسعودية بشكل خاص في أعمالك؟ نشأت وما زلت حول الطقوس الدينية بشكل أو بآخر. عائلتي محافظة، ووالدتي شخصية دينية مرموقة في المجتمع. درست أنا منذ الصغر مع أصدقاء من مذاهب أخرى. سأكون صادقاً وأقول بأننا في وضع أفضل الآن مما سبق من ناحية التعدد المذهبي والتعايش بين الناس، سواء في الأحساء أو المدن الأخرى على حد علمي الأقل. الأمر الذي يشجعني هنا هو أن الكثير من الناس من مختلف المذاهب والخلفيات الثقافية والدينية أصبحوا قادرين على التعبير واستخدام موروثهم في أعمال تمثلهم وتعبر عنهم. الجماليات الدينية، القديم منها والحديث، مدهشة جداً. الأصوات والأشعار والأداءات والممارسات، الإحسان والصلاة والصيام والعزاء والأفراح، بشكل عام وخاص، جزء من هويتنا المركبة والجميلة - بشرط أن نحتفل بها جميعًا. إلا أننا لا ننكر عدم وجود تعصب ديني ومذهبي وعرقي؛ فترسباته كثيرة ويجب علينا محاربته حتى آخر أثر له.
تابعوا محمد على إنستقرام وزوروا مدونته للاطلاع على أعماله.