خلال أيام الحجر المنزلي أعتقد أن أغلب البشرية حول العالم لجأت للطبخ كوسيلة للتنفيس عن العزلة القسرية المفروضة عليهم، و لا أظن أن بلدًا من بلدان العالم فاتته هذه الفعالية أو عملية دخول المطبخ. امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور كعكات جميلة، ووصفات أخرى ناجحة، وآخرون شاركوا ما فشلوا به في المطبخ من باب الفكاهة. تناقل الجميع النكات و الدعابات حتى، خصوصاً مع تناقص البيض في بعض المحلات بشكل مفاجئ. لوهلة تشعر أن حميمية الحياة كلها و التواصل بين الناس أُختزلت في المطبخ و أرففه، وفي نخل الدقيق وخلط الأمزجة المختلفة. أظن أن ما حدث بين جدران المطابخ و مشاركة ما يحدث داخلها كان نوعاً من التقارب الاجتماعي الدافئ في صورة بسيطة في ظروف العزل الواقعة. وأظن أن المطبخ و الوصفات استطاعوا أن يُبقوا على بصمة في ذاكرة العالم، بل ستُخلد ذكريات مختلفة عن هذه الفترة مرتبطة بين جدران منازلنا، و تشكل الروائح مصدراً مثيراً للحنين و الذكريات لدى معظمنا؛ فهي تعود بنا لتلك الغرف الصغيرة في داخلنا التي ننساها، لا نكاد نلتقي شخصًا لا يرتبط برائحة طعام ما في مناسبة مهمة أو هامشية أو في أيامه الروتينية.
لذاكرتنا قدرة عجيبة على استحضار الكثير من التفاصيل لتعمل عمل أوراق التذكير الملونة. أما أنا فارتبطت ذاكرتي بالبرتقال. يمتلك البرتقال قدرة عجيبة على خلق الحنين داخلي، بل ارتبط بالفرح وبأكثر اللحظات غرابة و تعاسة. أحب فاكهة البرتقال في كل أشكالها، في تشكيلها الطبيعي، وبتدويرتها و نتوءات القشرة أو حتى بالرذاذ المنتشر حالما نقطعها في البداية، وبصورة عصير ربيع المصنَّع الذي يعود بي لمقاعد الدراسة و الخمسة عشر دقيقة المخصصة لوقت الفسحة. لفاكهة البرتقال النصيب الأكبر من ذاكرتي في زاوية الأطعمة. حتى أني أذكر أن في أحد مراحل عمري توقفت عن الأكل بشكل جيد وانصرفت لأكل البرتقال و شرب عصيره بطريقة مبالغ بها، ووصل بي الحال أن أتذوقها مع حبوب الإفطار لنبذ الحليب. و مع أن الأمر يبدو و كأنه بلغ حد الهوس إلا أنه خلق ذكرى قوية و ترك أثراً يجعل من السهل تذكر ماهية الكثير. رافقتني كفاكهة مفضلة ولم أنتظر كثيرًا حتى أضيفها لعيد ميلادي الثاني و العشرين قبل مدة، فغردت في تويتر بمقطع من قصيدة رياض الصالح حسين مع إبدال الأسامي:
أنا هيڤي عمار”
“ و عمري اثنتان و عشرون برتقال قاحلة...الخ
لكن من بين كل روائح البرتقالات التي مرت علي في العقدين المنصرمين من عمري، تفوقت رائحة كعكة البرتقال على أخواتها الأخريات. تعيد لي سيلاً من ذكريات الطفولة الدافئة. صاحبتني كعكة البرتقال جيداً في أيام الطفولة. والآن رافقتني في الحجر المنزلي، و تحديدًا بتاريخ الحادي والثلاثين من شهر آذار من عام ألفين وعشرين. خبزت كعكة البرتقال يومها لأسباب مختلفة: أولها الحنين لشخوص أفتقدهم، ووجوه رحلت، سواء بمغادرتها عالمنا هذا كجدي و جدتي، أو بحكم المسافات الطويلة بيني و بين أشخاص اشتقت لهم. ثم صادفتني تغريدة كتبها فتى لا أعرفه يسمى عبدالرحمن: كتب عن بطاطس عُمان وأثره، فحدثت ذاتي أن كعكة البرتقال تستحق أن تدون بكلمات كذل،ك وهكذا كتبت على غراره. و آخرها هوسي الصغير بالخَبزِ و العجن.
الكعك مجملاً صنف من أصناف السعادات الصغيرة في الحياة، فبينما تصنعه يبعث فيك شعور خلق أمر جميل كما لو كانت لوحة فنية أو كأن تكتب شعر هايكو عن الربيع: بسيطة، سهلة، و سلسة المظهر. لكن تتميز كعكة البرتقال بأنها كعكة ذكريات
شخصياً أشعر أنها كعكة عطل الأربعاء سابقاً في منزل الجد والجدة، حيث يجتمع الجميع . تحضر كل واحدة من عماتي صنف طعام و تتميز كل امرأة من نسوة عمي بتحضير صنف ما. يخلق الجميع بهجات صغيرة من الطعام، وفي منتصف تلك السفرة الباعثة على الفرح بعد كل صلاة عشاء - حيث يجتمع الجميع في الصالة المكتظة برائحة كرة القدم، والعطور النسائية الشفيفة، وثوب جدي الأبيض كقلبه، ورائحة شعر جدتي المحنى بحناء المدينة - كانت تحضر كعكة البرتقال التي حضرتها جدي بيديها المباركتين كشيء يرمز للأصالة، ككونها ثقافة. لا تتغير، هي نفس كعكة البرتقال؛ فبينما يتميز كل صنف من أصناف الطعام بإضافات، فإن كعكة البرتقال شامخة، ولطيفة. هي لطيفة للغاية، ولا تتطلب منك سوى موازنة في الخفق والخلط لتنتج لك في النهاية صنفًا ذا رائحة حُلوة، وما أن ترش بعض السُكر حتى تبدو بهية وفي أحلى حللها، وحالما تقطعها تتفرد ناعمة على الصحن بقطع زبيب صغيرة لامعة تجمعت في سطحها.
نكبر نحن و نتغير، لكن تبقى كعكة البرتقال هي كعكة البرتقال بخمس بيضات، وعصير برتقالة،
مع إضافة بقية المكونات، وخلط الدقيق بخفة، ومهما كبرت فإن لها ذات القيمة، بل وتزداد قيمتها مع مرور سنين عمرك. اليوم حين خبزت كعكة برتقال استشعرت كل تلك التفاصيل القديمة منذ صغري وإلى اليوم. تذكرت وجوهاً كثيرة غائبة و أخرى حاضرة. تذكرت كف جدتي التي غادرتنا، وصوت زوجة عمي حين تأمرنا بالهدوء ليحصل كل منا على حصته. تذكرت الأيام المدرسية التي كانت تصنع فيها أمي كعكة برتقال لتخلق لنا بهجة صغيرة. تذكرت مذاق كل كعكة برتقال صنعتها إحدى نسوة العائلة. استحضرت كعكة البرتقال لي كل تلك الذكريات الرقيقة التي قد ننساها في خضم تفاصيل أيامنا المزدحمة. جعلتني أذكر لحظات دافئة ما عادت تتكرر الآن. بعثت فيَّ الحنين لنهاية الأسبوع، ولصوت الأطفال، وتكرار الحركة بين المطبخ والصالة، لكوب شاي جدي المليء بالسكر ولأصوات كثيرة تتناقش حول مبارة ما، أو مواضيع من هنا وهناك، وبأغطية الشعر الملونة وبصوت الفتيان وهم يلعبون كرة القدم. تبعث كعكة البرتقال في داخل كل منا ذكرى لأشخاص رحلوا و ترسم لك ابتسامة مليئة بالحنين لأيام لا تتكرر لكنها تملأ قلوبنا بالرضا.
هيڤي عمار خريجة أدب إنجليزي كردية مهتمة بالشعر والخَبز والتطريز. تكتب وتخبز هيڤي مع عائلتها في الرياض. تابعوها على إنستقرام وتويتر للاطلاع على مزيد من أعمالها.