32.
كيمياء مجتمعية
بزغت شمس العلم والتنوير ، واضمحلت سوداوية الجهل وتقهقرت وتوارت عن الأنظار. لن نبالغ ونقول أنها شيعت إلى مثواها الأخير، فما زالت هناك فئة ليست بالقليلة تحمل هذا النفس الظلامي وتتبنى معتقدات بالية أكل عليها الدهر وشرب، فلا يوجد خير مطلق ولا يوجد شر مطلق، فكل طريق مهما كان سالكًا ومعبدًا ستجد من يحيد عنه ضاربًا باللوحات الإرشادية عرض الحائط ! وباستطاعتنا القول أن الفئة الأولى أقصت نظيرتها من الحلبة –التي تمثل المجتمع- بالضربة القاضية، فبعد صراعات استمرت لعقود كان العالم العربي ضحيتها؛ حيث تعطلت عجلة التنمية لدينا بينما نجد الأخرى مسرعة لا منافس لها سوى ظلها! أصبح هناك ما أطلقت عليه "كيمياء مجتمعية" ، فتجد أن المذيب –وهو المجتمع– يتناغم ويتناسق مع المذاب –وهو ما استجد من علم وحقائق- ، فبعد أن كان المجتمع محلولًا مشبعًا منغلق على ذاته خانعًا للتقليدية والنمطية التي كانت كورم سرطاني خبيث ينهش جسمه من الداخل ويمزقه، استطاع الخروج من عنق الزجاجة وكسرها ليتحول إلى محلول "غير قابل للتشبع"، فأصبح مضادًا للتأكسد يتقبل الرأي والرأي والآخر ويخضعه إلى ميزان العقل والمنطق ولا يبالي بردود الفعل السلبية الناتجة عن ذلك ، فمضى أمد ليس بالقصير كانت المحسوبيات والتشنجات الطائفية تلعب دورها كقفل حديدي صلد يفصل بيننا وبين العالم الآخر، فكنا نمارس الإقصائية في صورتها الكاملة "يا أبيض يا أسود"، فإما أن تكون معي أو عليك كسر ذلك القفل –وبالطبع لن تستطيع– لتتمكن من طرح رأيك المخالف للسائد ، وبعد سبات عميق أدركنا أخيرًا أن هذا الميزان لو تم ضبطه على أعلى مستويات الدقة كفيل لرفعة شأن الإنسان، فكان الله في كتابه يوجه آياته لـ " أولي الألباب " وهم أصحاب العقول والفكر النّير، فالثبات دائمًا على قناعة معينة ورفض ما سواها أصبح أمرًا لا بد من التخلص منه ، فبعد أن كانت تلك القناعات على أعلى درجات التجمد والبرودة، بدت تذوب شيئا فشيئًا حتى أصبح من الممكن بلورتها وتشكيلها لتحقق الاستفادة القصوى من التنوع الفكري والثقافي الناجم عن ذلك، فالاختلاف ظاهرة صحية تدل على أن المجتمع بفكر واعي ومتجدد ، فبين حامضية القناعات وقاعديتها. قرر المجتمع أن يتخذ من الرقم سبعة موقفًا له، وتمكن أخيرًا –بعد عناء- من نزع ذلك الرداء البالي وأصبح بإمكانك أن تطرح أفكارك وتناقشها مع غيرك على عدد ألوان الطيف السبعة وأكثر. فمن هذا المنطلق علينا أن نأخذ هذا الأمر من باب "أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل" ، فالبكاء على اللبن المسكوب لن يؤتي أكله، فبخلق توليفة فكرية تدمج بين شذى الماضي المعتق وأصالة الحاضر سنستطيع أن نلملم ما تبقى من أوراق ونتمكن من وزن المعادلة التي لطالما كان معاملها حائرًا في أوساط ذلك الصراع الرتيب الممل، وعلينا أن نتحمل وعثاء السفر وأن نبذل كل جهد مضني في سبيل مسابقة الزمن علنا نتمكن من اللحاق بعجلة التنمية التي تبعد عنا ملايين الأميال!