استيقظ على عجل كالعادة، ولملم نفسه بعد الحلم المزعج الذي نبهه من نومه، إذا استثنينا منبه العمل الذي يرن منذ أربع دقائق.
تفقد هاتفه وأسكت الرنين المُلح. برز له تنبيه من خدمة الأخبار التي اشترك فيها منذ أسبوعين. ليس من عادته الانشغال بمتابعة المجريات حول العالم، بل يقضي يومه كما لو كان الناجي الأخير بعد معركة أحرقت مدينة بأسرها. لا يعلم شيئًا، لا يريد شيئًا، ولا يتحدث إلا لمامًا، وغالبًا ما يكون المعنيَّ الوحيد بجُمله التي يلقيها عرضيًا.
يظهر له بوضوح على الشاشة رقم متصاعد لتعداد الإصابات العالمية بمرض جديد، عصي على التنبؤ، ولم يجد المختصون له اسمًا بعد. ومنذ شهر ونصف تقريبًا رُصدت أول حالة له في دولة تبعد عنه ثلاث ساعات بالطائرة. يزفر زفرة طويلة، ويتابع استعداده للتوجه إلى العمل، يخرج مسرعًا يتلقف في طريقه كل ما يعتقد أنه سيحتاج إليه اليوم، ويحث الخطى إلى الخارج.
ما أثار اهتمامه بالذات في هذا الوباء مجهول الاسم أنه يؤدي بالبشر إلى فقد القدرة على الكلام! قرأ البارحة في ذهول مقالة طبية ترصد أهم الأعراض، وتحذر من الاختلاط بمن يبدو عليه الشحوب، أو انتفاخ غريب في منطقة الفم، وتضخم اللسان، والتقيؤ المتواصل.
يقول الباحثون أن أخطر أعراض المرض وأكثرها تأكيدًا الغثيان المفاجئ والشديد عندما يهم الإنسان بالحديث، والألم المبرح في الحنجرة، ثم التقيؤ بعد أن تخرج الكلمات الأولى من فمه، والمزيد من التقيؤ ليوم أو نصف يوم بحد أدنى، قبل أن تظهر بقع الدم على لسان المصاب، ثم تنساب خيوط رفيعة حمراء من أطراف الفم، يتبعها سيل من الدم القاني كلما أعاد المصاب محاولة الحديث، وفي اليوم التالي تتورم الشفاه ويصبح من العصي إخراج كلمة واحدة، وأثناء هذا الظرف تتحول محاولة الحديث مع المشتبه بهم إلى حدث مربك ومثير للفزع؛ فما إن يتلعثم شخص في مكان ما، ويتجشم عناء قول جملة مفيدة بلا طائل، حتى يعود للتقيؤ، وينفض الناس من حوله.
تزداد ضراوة المرض كلما بدت مقاومة الإنسان؛ فمع استمرار محاولات النطق يشتد ألم الحنجرة، وتصاب بالشرخ، وتسيل مختلف أنواع السوائل من فمه ابتداءً بالمياه وسوائل الجهاز الهضمي، ثم الدماء حتى يصاب بالجفاف والنقص الحاد في الدم جراء التقيؤ المستمر بينما يحاول عبثًا التفوه بجملة مفهومة. وحتى الآن لم يجد الأطباء وسيلة للوصول إلى شروخ حناجر المصابين ومعالجتها بسبب الانتفاخات التي تجعل من الصعب الوصول إليها، أو معرفة سبب تفجر الدماء من الأفواه. اقتصرت المحاولات على حقن أجسادهم بالسوائل، وضخ الدم في أوردتهم لتفادي الوفاة الحتمية.
حتى الآن أعلنت 18 دولة تسجيل ما لا يقل عن 600 ألف إصابة مؤكدة، ومئتي حالة وفاة جراء المضاعفات، مما يدعو الجهات العالمية المختصة إلى تصنيفه وباءً عالميًا، وتشديد إجراءات التنقل حول العالم لمنع تفشي الإصابات في الدول التي لم يصل إليها بعد.
على الأقل؛ لم يُعلن عن أي حالة في دولته حتى مساء الأمس، مما دفعه لتنفس الصعداء، ومحاولة التلهي بتذكر ما يتوجب عليه القيام به قبل أن يصل إلى مقر عمله.
يستغرق طريقه عشرون دقيقة قضاها عبثًا في تجاهل ما يحدث؛ فما إن تذكر مهمة يتوجب عليه أدائها فور وصوله، حتى تغير لون الإشارة من أمامه إلى الأحمر، وتوقف بحدة مصدرًا بسيارته ذلك الصوت المقلق الصادر عن سحب المكابح فجأة. يلاحظ مجموعة من الأطفال على خط المشاة يبدون في طريقهم للعودة على عكس المتوقع! ينزل زجاج سيارته سائلاً المعلمة المرافقة:
"ظننت أن أقرب مدرسة من الطريق المقابل؟"
"ترد المعلمة: "نعم لكني أعود بهم إلى المنازل
"هل يصادف اليوم طقسًا سيئًا؟" ويرفع ناصيته نحو السماء. "لا زالت الشمس حادة ولا ريح ولا غبار؟"
"المعلمة: "ألم تسمع نشرة الثامنة؟ أغلقت المدارس لحين التأكد من عدم وجود أعراض وإصابات قد تنتقل إلى الأطفال
تجاوزت المعلمة، وفهم أن الإجراءات التي تنويها الجهات المعنية لا تستهدفه، بل يبدو أن الحرص أولاً على الصغار ربما لكثرة حركتهم، بالتالي ارتفاع احتمالات نقلهم للعدوى، أو أن لا ضير من التخلص من عدد من البالغين. وجد أنه مرتاح لهذا الاستنتاج. بالفعل يواجه أغبياء كثر يجعلون من حياته اليومية أصعب، وآخرين لحوحين، وزميل له بالغ الدهاء، لا يزال يسترق أعماله وينسبها لنفسه أمام مديرهما، تمنى لو يصاب، فلا يستطيع سرقة شيء حتى لو مغلف سكر! تذكر أيضًا جارته في الشقة المقابلة، العجوز التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تطفئ تلفازها. تمنى لو تموت أيضًا.
كلما أمعن التفكير، يجد في الكون وحشية تبدو له أحيانًا مبررة، وغالبًا لا. ما الذي يعنيه أن تتكلم كل يوم بلا حساب للكلمات التي من الممكن أن تقولها، والأغنيات التي تحفظها، والنصوص المفضلة التي ترددها أثناء الاستحمام، ومخاطبة نفسك أمام المرآة صباحًا؟ ورسائلك التي سجلتها كل ليلة، مخاطبًا فيها امرأة تراها كل يوم في المصعد، ولا تجرؤ على محادثتها، ثم فجأة لا تقدر على كل ذلك؟ وكلما أردت قول كلمة تقيأت بملء فيك. ثم تموت، لأنك رغبت في قول شيء ما! كم يبدو ذلك صادمًا ومثيرًا للاشمئزاز، أكثر من نكتة عنصرية يلقيها مديره على أسماع موظفي الشركة.
يرى أن الأمر برمته لا يعدو عن كونه مزحة ثقيلة الظل، يمزح بها شخص منيع، مع آخر لا يملك إلا غرفة وضيعة ينام فيها، مهددًا إياه بالاستيلاء عليها! وتمنى أن تكون كذلك فعلاً، رغم أنه قبل دقائق فكر جديًا في ثلاث أشخاص على الأقل، يود لو قضوا جراء المرض.
يصل أخيرًا إلى المكتب. يطفئ محرك السيارة ويأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يدلف إلى مجمع الأعمال، حيث لا مجال لاستراق لحظة شخصية. يستجمع قواه، ويتذكر الجملتين التي يريد أن يقولها للمرأة التي تستقل المصعد معه كل صباح. سجلها مسبقًا على ورق ملاحظات صغير. استخرجها وقال ما فيها مرتين بصوت مسموع. أخذ نفسًا آخر، وترجل من السيارة والورقة تكاد تتآكل في قبضته.
استقل المصعد، ولم يجدها، وبينما يغلق الباب سمع ركضة خفيفة، وإذ برأسها يطل من جانب المصعد. ضغط على مفتاح الباب وهو يضغط على الورقة بكفه الثانية، وسحب كافة الأكسجين المتبقي في المربع المغلق بين 19 طابقًا.
خاف من وجودها المستحوذ على 3 أمتار ونصف، وخشي ألا يتجرأ على قول جملة. أحس بالورقة مبللة في كفه، ومؤشر المصعد يواصل الارتفاع، يقترب من الدور الخامس، السادس الثامن.. بقي من وقته 3 طوابق قبل أن تترجل.
فتح شفتيه وبصوت قادم من جوفه كما لوكان صادرًا من بئر، همس: "صباح الخير!" لم تلتفت. أعاد النظر إلى الورقة، وهمّ بالقراءة منها مباشرة حتى تسمعه.
"…أردت أن أقول لكِ"
تحشرج صوته. سعل بقوة، والتفتت المرأة. ألهاه انتباهها عن سعاله المفاجئ وأراد أن يكمل، لكن سائلًا كثيفًا داهمه وانتشر من بين فكيه على أرضية المصعد. تقيأ في ذهول أنساه الجملتين، والمرأة التي رعته وجهها أخيرًا، أصبح ففي عينيها مخيفًا، ورائحة قميصه نتنة.
تهاوى على أرضية المصعد، وخرجت المرأة صارخة تلقي حقيبتها بفزع. أغلق عينيه، وأعاد فتحهما بكل ما تبقى له من جَلد. برزت في ذهنه مجددًا فكرة وحشية الكون. وشعر بثأر شخصي قبل أن يلمح أقدامًا كثر، وصوتًا مدويًا لسيارة إسعاف، وعامل نظافة يكنس ورقة صفراء مبللة، عالقة في باب المصعد.
:عن الكاتبة
اسمي أسماء محسن، يقول والدي أنني كل الأسماء، وأنا إلى فترة قريبة لم أكن أعرف أيّ منها هو اسمي بالتحديد، لكني لم أقف عند هذا الحد، وقررت أن أجعل الحياة تريني أيّ منهم سأكون، كنت أكتب وأنا فتاة مراهقة نصوصًا عاطفية هزيلة، وأجمع أصدقائي لأتلوها عليهم بين الدروس، واخترت الزاوية اليسرى من اللوح الأبيض في فصول المدارس لأسجل عليها كل يوم ما أحفظه من شعر أو حكم مثالية جدًا، أو بليغة إلى الحد الذي لا يمكنني من بعده كتابة شيء آخر. مما دفع معلماتي لترك الزاوية بما كُتب عليها، وبدأ الشرح من حولها. كانت تلك منصتي الأولى، ثم الإذاعة والمسرح لاحقًا. ثم كتبت للصحافة، ثم في الانترنت، واليوم أنا أكتب لنفسي، ولعملي في التحرير والإعلام والكتابة الإبداعية، وأسجل يومياتي باستمرار منذ ما لايقل عن 9 سنوات، وأخط رسائل مطولة لأصدقائي، وقصصًا أنثرها هنا وهناك، لعل الكلمات تبقى ريثما نفنى أو نصل، لا يهم.
درست الصحافة، ثم ساقتني الأقدار إلى كتابة المحتوى، بكافة أشكاله. نصوصًا وقصص وأدلة وخطابات وتغريدات، تقارير ومقالات، كل ما وقعت يدي عليه، وكل ما أراده العملاء. كتبت أشياء لا تشبهني، وقدمت نصوصًا لا أشعر بالانتماء نحوها، ثم وصلت إلى مرحلة أتخيل فيها ما يمكن أن يُكتب، ثم أكتبه؛ أصبّ فيه من روحي وأصعد به إلى آفاق غير متوقعة، وبشكل مفاجئ على غير ما اعتدنا من السوق؛ ينال الرضا.